د. بهاء حلمي يكتب: المجالس العرفية.. تحد لسيادة القانون وهيبة الدولة
مما لا شك فيه أن سيادة القانون والالتزام بتطبيقه ليس مبدأ دستورياً فحسب بل هو معيار لقياس مدى تقدم الأمم ونجاحها فى مواجهة الفساد بشتى صوره، كما أنه يشير إلى مدى احترام الدولة والتزامها بمعايير حقوق الإنسان تجاه مواطنيها، وقدرتها على تنفيذ السياسات اللازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية بعدالة ومساواة، وقدرتها على ضبط الأداء فى إطار استقلالية القضاء وقواعد التعامل بشفافية بين مؤسسات الدولة.
وعلى الرغم من القبول الضمنى من الدولة الرسمية بالمجالس العرفية وآليات عملها، ومحاولة إضفاء الشرعية عليها بصورة ما من خلال قرار رئيس الوزراء بتضمين مسئوليات العمد ومشايخ البلد ومديرى الأمن عقد المجالس العرفية للصلح بين المتخاصمين ضاربين عرض الحائط بالمبادئ والقيم والحقوق الدستورية التى تنص على المحاكمة العادلة للجميع، أمر يخالفف الدستور ويهدر الحقوق، ويخلق بيئة مواتية لتصاعد حالة الاحتقان بين المواطنين وعلى الأخص فى الأحداث الطائفية فى مناطق الصعيد وغيرها. أضف إلى ذلك أن المجالس العرفية تعيق تحريك الدعوى الجنائية بالمخالفة لأحكام القانون.
هناك خلط فى الأمور بين دور المجالس العرفية فى إزالة الضغائن ومحاولة صفاء النفوس بين أطراف حوادث الثائر لإيقاف نزيف الدم بين اطرافه سواء تم الحكم عليهم من منصة القضاء العادل أم فى انتظار صدور أحكام ضدهم دون أى تدخل أو تأثير على نظر تلك القضايا وبين اعتبار المجالس العرفية بمثابة القضاء العرفى البديل عن القضاء والدستور والقانون بل الدولة كلها.
إن المجالس العرفية فى مصر تعد وصمة عار فى جبين سيادة القانون، وتعتبر بوابة للهروب من القضاء، كما انها لا تعالج المشاكل بل تتعامل مع ظاهرها لتتفاقم جذورها بشكل يهدد الأمن والاستقرار بالمجتمع لأسباب عديدة أولها، اعتماد القضاء العرفى على قوانين خاصة تختلف عن قوانين وتشريعات الدولة، فهو يعتمد على العادات والتقاليد والبعد الاجتماعى وهى قواعد عرفية غير مكتوبة تختلف من مكان لآخر داخل الدولة يتم توارثها عبر الأجيال، وللأسف تعد القضايا الطائفية من أبرز القضايا التى ينظر فيها عرفيا على الرغم من أنها قضايا تمس الأمن القومى وتؤثر على نسيج الأمة ووحدتها.
وعلى جانب آخر فقد يكون القاضى العرفى من رؤساء القبائل أو المشايخ الذى يتمتع بشخصية متزنة، ويتميز بالحكمة والقدوة بين الناس فى مجتمع معين بغض النظر عن المستوى التعليمى أو الثقافى الذى يؤهله للعمل كقاض أم لا، لذلك تخرج غالبية احكام تلك المجالس فى القضايا الطائفية بإجراءات تتنافى مع الدستور والقانون والمواثيق الدولية سواء أكانت من حيث العقوبات مثل الطرد من مكان الإقامة، والحرمان من حرية التنقل، وحجب الشخص عن إدارة املاكه أو اجباره على بيع ممتلكاته دون ارادته، أم من حيث تطبيق قواعد العدالة لذا فهى إجراءات تعسفية منحرفة عن مسار الدستور والقانون.
إن المجالس العرفية تؤثر على شكل ودور الدولة أمام مواطنيها، كما أن عدم الالتزام بسيادة القانون والاعتماد على تلك المجالس يكشف عن مستوى الوعى لدى شريحة عريضة من المجتمع، ويكرس وضع عدم المواساة والتمييز بين المواطنين دون تدخل حقيقى حاسم من الدولة.
إن المجالس العرفية تحد للقانون وهيبة الدولة، ويخطئ من يظن أن تلك المجالس قد حسمت مشكلة ما، فعلى مدار العقود الماضية تعتمد الدولة عليها فى حل المشكلات الطائفية، ولم نتيقن من حل مشكلة واحدة حيث إن التوترات الطائفية مازالت قائمة فى صعيد مصر، وأن هدأت حدتها ولكنها نار ساكنة يتم اشعالها بين الحين والآخر، كما أن احتكار الأجهزة الأمنية التعامل مع هذا الملف لا يؤدى إلى علاج وحلول عادلة لأطراف تلك المشكلات.
لقد حان الوقت لتعميم وترسيخ مبدأ سيادة القانون وتحقيق المساواة والعدل بين المواطنين دون تمييز، والتعامل مع المواطنين بغض النظر عن الدين أو الجنس أو أى سبب آخر، ولهم كل الحقوق وعليهم جميع الواجبات فى الدولة، حيث لا يمكن تحقيق التقدم بالدول دون الالتزام بسيادة القانون.