د بهاء حلمي يكتب: سيادة القانون والشرطة

سيادة القانون والشرطة

يلقى مصطلح دولة القانون اهتماماً وانتشاراً واسعًا على الصعيدين الدولي والمحلي، وعلى الأخص في مجال الحقوق والحريات والمساواة وعدم التمييز في النظم الديمقراطية.

وعلى الرغم من اتساع استعمال هذه العبارة والاستشهاد بمبادئها السامية، بقى أن معناها الدقيق ومدى تطبيق مفهومها لا يزالان غير واضحين، حيث ذهب البعض إلى اعتبار أن مبدأ سيادة القانون جزء من آليات الديمقراطية ومن الشروط الأساسية لوجود نظام ديمقراطي، في حين أن البعض الآخر قد اعتبر أن الديمقراطية جزء من آليات سيادة القانون على اعتبار أنها من الحقوق والحريات الأساسية التي نصت عليها قواعد قانونية ملزمة([1]).

ويحرص الجميع على المناداة بالديمقراطية ودولة القانون والتزام الشرطة بواجباتها ومسئولياتها، وعلى الأخص عند ممارستها القوة لأداء هذا الواجب أو عند استخدام سلطتها في تفريق الاحتجاجات غير السلمية أو في حالات الطوارئ في مواجهة الإرهاب أو في أي حالات اضطراب تؤثر على الأمن القومي للبلاد.

لأن دولة القانون تقتصر فيها سلطة الدولة على حماية المواطنين من الممارسة التعسفية للسلطة، كما يتمتع المواطنون بالحريات المدنية قانونياً ويمكنهم استخدامها أمام المحاكم، ولا يمكن لبلد أن يكون به حرية ولا ديمقراطية بدون أن يكون به أولاً دولة قانون ودستور.

وعلى الرغم من تعدد واختلاف التعاريف بشأن دولة القانون، إلا أنه قد لا يكون ثمة خلاف حقيقي على مفهوم ودلالة مصطلح دولة القانون المضاد لدولة الدكتاتور أو الدولة البوليسية.

ويبين مما سبق أن المفهوم العام لسيادة القانون يتحدد بخضوع الدولة وتقييدها في جميع مظاهر نشاطها بأحكام القانون، أي إن جميع سلطات الدولة “التشريعية والتنفيذية والقضائية”، لا يمكنها أن تتصرف إلا في حدود أحكام القانون، ومن أهم مرتكزات سيادة القانون هو خضوع السلطة التنفيذية في الدولة للقواعد القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية، وهناك مقومات أساسية لخضوع الدولة للقانون أي تعمل بسيادة القانون، وهذه المقومات تعتبر ضمانات ومبادئ أساسية لقيام سيادة القانون في أي دولة وهي:-

  • الدستور:

يعتبر الدستور هو الضمانة الأساسية لقيام دولة القانون، فهو الذي يبين نظام الحكم في الدولة وتشكيل السلطات العامة وتوزيع الاختصاصات بينها وكيفية ممارستها، كما يبين حقوق الأفراد والوسائل اللازمة لضمانها وصيانتها.

فالدستور يشكل قيداً لسلطات الدولة، حيث يبين حدود واختصاص كل سلطة، بحيث لا تستطيع تجاوزها، وإلا تكون قد خالفت أحكام الدستور، وفقدت السند الشرعي لتصرفها.

  • الفصل بين السلطات:

يعني وجوب الفصل بين السلطات الأساسية “التشريعية والتنفيذية والقضائية”، ويقصد بالفصل بين هذه السلطات الفصل الشكلي والعضوي، أي توجد هيئة أو سلطة تتولى وظيفة التشريع، وهيئة أو سلطة أخرى تتولى وظيفة التنفيذ، وهيئة أو سلطة مختلفة تتولى وظيفة القضاء، مع عدم جواز أن تعتدي أيًا من هذه السلطات الثلاث على اختصاصات سلطة أخرى.

  • رقابة القضاء:

تُعد الرقابة القضائية الوسيلة الأمثل لصيانة وحماية حقوق وحريات الأفراد، سواء فيما يتعلق بخضوع السلطة التنفيذية للقانون أو في خضوع السلطة التشريعية للدستور.

  • ضمان الحقوق والحريات الفردية:

إن الهدف الرئيسي من إخضاع الدولة للقانون هو تأمين الحماية لحقوق وحريات الأفراد ضد تعسف السلطات العامة، فمن المفروض في دولة القانون ضمان حقوق وحريات الأفراد ولاسيما الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

هـ- استقلال القضاء:

إن وجود قضاء مستقل يشكل أحد أهم المرتكزات الأساسية لقيام دولة القانون، حيث يتوقف الوجود الفعلي لبقية مقومات دولة القانون، فلا قيمة للدستور ولا لمبدأ الفصل بين السلطات ولا لإعلان الحقوق والحريات الفردية، إلا بوجود قضاء مستقل ورقابة قضائية تضمن احترام أحكام الدستور والقانون، وتضمن ممارسة كل سلطة اختصاصاتها في حدود مبدأ فصل السلطات، وتضمن حماية الحقوق والحريات الفردية، ولا قيمة للرقابة القضائية إلا إذا كان قضاء مستقل يمارسها دون أي تدخل في عمله من قبل السلطة التنفيذية أو التشريعية.

وليس هناك من شك في أن استقلال القضاء يُعد ركناً أساسياً لبناء دولة القانون، فعندما يكون القضاء مستقلاً ونزيهاً في عمله، غير خاضع لحزب حاكم أو لأي جهة أخرى مهما كانت، يكون تطبيق الجزاء ممكناً بحق من يخالف النصوص القانونية أو الدستورية دون استثناءٍ لأي جهة أو شخص مهما كان منصبه بالدولة.

كما أن مفهوم دولة القانون لا يتعارض مع شكل الدولة، فيمكن أن تكون دولة موحدة وتكون دولة قانون مثل مصر وفرنسا، وقد تكون دولة اتحادية “فيدرالية” وتكون في الوقت ذاته دولة قانون مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك آليات لتعزيز مبدأ سيادة القانون وتعتمد على رقابة واستقلال القضاء.

يعني ذلك أن مبدأ سيادة القانون وآلياته هو نظام متكامل من القواعد القانونية المعززة بالأجهزة القضائية الفاعلة والمستقلة، التي تبيح تنظيم المجتمع وضبط أداء السلطة وتوفير الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية وتعزيزها، الأمر الذي تؤكده المواثيق الدولية والإقليمية والوطنية، والتي نتعرض لها كالتالي:-

  1. مبدأ سيادة القانون في المواثيق الدولية:

يؤكد ميثاق الأمم المتحدة في مواده على تحديد مقاصد الأمم المتحدة المتمثلة في حل المنازعات الدولية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب، واحترام حقوق الإنسان بلا تمييز، بالإضافة إلى قيام المنظمة على مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، وتشكل جميع تلك النصوص أساساً لسيادة القانون في الأمم المتحدة([2]).

ويؤكد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن الناس جميعاً سواء أمام القانون ويتمتعون دون تمييز بحق متساوٍ في التمتع بحمايته([3]).

ويؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن” كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا”([4]).

كما أن الإعلان الخاص بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، يحددان بجلاء طبيعة ونطاق مبادئ عدم التمييز والمساواة أمام القانون الواردة في الإعلان العالمي والعهدين الدوليين([5]).

وقد عرض الأمين العام للأمم المتحدة تعريفًا واسعًا لمعنى سيادة القانون في تقرير صدر عام 2004، حيث وصفه “بأنه مفهوم يقع في صلب رسالة المنظمة الدولية، وهو يشير إلى مبدأ للحكم يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسئولين أمام قوانين صادرة علناً وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان” ([6]).

وعلى الصعيد الإقليمي فيشير الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في المادة الثالثة منه إلى ” أن الناس سواسية أمام القانون، ولكل فرد الحق في حماية متساوية أمام القانون”([7]).

ونحن نرى أن مصطلح سيادة القانون على الصعيد الدولي والإقليمي يشير إلى خضوع كل شخص طبيعي أو اعتباري عام أو خاص والدولة، مسئولين سواسية أمام القانون دون أي تمييز، ويحتكم الجميع إلى قضاء مستقل، مع الالتزام بالقانون الوطني وبما يتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان([8]).

وتشير الصكوك الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ومفوضية حقوق الإنسان إلى المسئولية التي تقع على عاتق الشرطة لأداء الواجب وفقاً للقانون، بهدف حماية المواطنين والمجتمع من أية أعمال تهدد السلامة والطمأنينة والاستقرار على نحو يتفق مع المسئولية التي تتطلبها هذه الرسالة ([9]).

  1. مبدأ سيادة القانون في التشريعات الوطنية:

جاء مبدأ سيادة القانون في صدارة مواد دستور 2014، حيث أكدت المادة رقم (1) على أن جمهورية مصر العربية نظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون.

كما يؤكد الدستور على أن سيادة القانون أساس الحكم بالدولة، واستقلال القضاء، وأن أي اعتداء على الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط بالتقادم، وأن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم لأي سبب([10]).

وقرر الدستور أن العقوبة شخصية، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، والقضاء حق مصون ومكفول للكافة([11]).

وحدد الدستور الإطار العام لواجبات ومسئوليات هيئة الشرطة وأعضائها، فمن جهة الواجبات فهي تكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر على حفظ النظام العام، والآداب العامة، أما المسئوليات فتتمثل في الالتزام بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

وقرر قانون الإجراءات الجنائية أن يكون مأمورو الضبط تابعين للنائب العام وخاضعين لإشرافه فيما يتعلق بأعمال وظائفهم([12])، بمعنى أن يتبع مأمور الضبط القضائي النائب العام فيما يتعلق بأعمال الضبطية القضائية، ويخضع لإشرافه، أما من الناحية الإدارية فيتبع رؤسائه الإداريين، ويخضع لتعليماتهم وفقًا لحكم المادة (22) من القانون المذكور ذاته.

وتجدر ملاحظة مدى تجلي حكمة المشرع المصري وحرصه على ضمان عدم تجاوز أو تعسف أي من مأموري الضبط القضائي في السلطة المخولة له قانوناً لأداء واجباته، من خلال الخضوع لإشراف النائب العام بصفته الوكيل عن الهيئة الاجتماعية، وولايته عامة لاشتمالها على سلطة التحقيق والاتهام وانبساطها على إقليم الجمهورية برمته، وعلى جميع ما يقع فيه من جرائم أياً كانت، ومن ثَمَّ فهو ضمان لتطبيق سيادة القانون على جميع مأموري الضبط القضائي في أعمال وظائفهم([13]).

ويؤكد قانون الشرطة على اختصاص هيئة الشرطة والالتزام بتنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات، وأن كل ضابط يخالف الواجبات المنصوص عليها في هذا القانون أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته يعاقب تأديبياً، وذلك مع عدم الإخلال بإقامة الدعوى المدنية أو الجنائية عند الاقتضاء، وفقاً لحكم المادة رقم (47) من القانون.

لذلك يتحتم على عناصر الشرطة الالتزام الكامل بالدستور والقانون، باعتبارهم من الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين وفقاً للمواثيق والصكوك الدولية وطبقاً للتشريع الوطني.

مما سبق يبين لنا أن مفهوم سيادة القانون يرتكز على الخصائص التالية:

خضوع كافة الأشخاص ومؤسسات الدولة ومسئوليها لسلطان القانون دون استثناء أو تمييز مع خضوع الجميع للمساءلة في حالة المخالفة.

تعزيز استقلال وَحَيْدَةِ القضاء لتحقيق العدالة المنشودة.

ضمان التشريعات الوطنية حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بما يتفق والمعايير الدولية.

وضع الآليات اللازمة لمتابعة إنفاذ القوانين بشفافية.

ولهذا فإننا نرى أن دولة القانون تعني سيادة القانون في الدولة، كما أن الأساس القانوني للشرطة في ظل سيادة القانون هو الالتزام بتنفيذ الواجبات وفقاً لأحكام الدستور والقانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية طبقاً للمعايير الدولية التي ترتضيها الدول، مع الخضوع للمساءلة القانونية والمحاسبة في حال مخالفة ذلك.

 

 

About Post Author